إن الله عز وجل قد جعل في خلقه سننا لا تتبدل ولا تتحول ولا تتغير وسنة الله في خلقه وكونه قد اقتضت أن يقدر الله عز وجل للعباد أرزاقا تصل إليهم وأموالا لا يكتسبونها ويتحصلون عليها وقدر الله عز وجل هذه الأرزاق بنفسه فلم يدع شيئا من ذلك لعباده وجعلها متفاوتة بين الناس لحكمة بالغة وأخبر عباده بذلك في كتابه { أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون } الزخرف32"
جعل الله أرزاق عبادة متفاوتة متباينة فهم في الأرزاق ليسوا سواء لحكمة بالغة نبه عليها القرآن الكريم في قول الله عز وجل { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء } "الشورى27" وقد أخبر الله عز وجل في كتابه أن أمما من الأمم التي قبلنا قد وسع الله لها في أرزاقها فبغت وتجبرت وتكبرت علي الله وبغت في الأرض كما أخبر الله من أجل هذا نبه القرآن الكريم علي هذا المال الذي يكون في أيدي الناس والذي يدركونه بحسب ما قدره الله لهم نبه علي جملة من الحقائق بينها القرآن وبينتها السنة في أن هذا المال قد جعل الله عز وجل في صفات تختص به فمن ذلك أن الإنسان يحب المال حبا جما عظيما شديدا كما قال { وتحبون المال حبا جما } "الفجر"
وكما قال { وإنه لحب الخير لشديد } "العاديات" فالإنسان يحب المال وقد خلقه الله كذلك وجعل من صفات هذا المال أنه فتنه وابتلاء واختبار لعباد الله { ليبلوكم أيكم أحسن عملا} " الملك 2" وجعل هذا المال المحبوب إلى البشر منه ما هو حلال قد أحله الله ومنه ما هو حرام قد حرمه الله وأحل لعباده أن يأكلوا مما أحله الله ونهاهم أن يأكلوا ما حرمه الله عليهم ونبه رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى حقيقة تختص بهذا المال الحرام وهي حقيقة يعيشها كثير من المسلمين عندما يتوجه المسلم إلى الله بالدعاء عندما تنزل بك حاجة أو مصيبة ترجو من الله أن يرفعها ويدفعها عندما تريد قضاء أمر من الأمور فتتوجه إلى الله بالدعاء عندما تكون بحاجة ماسة إلى أمر تريده أن يحققه الله لك فتتوجه إلى الله بالدعاء ولكنك في كل مرة تجد أن هذا الدعاء لا يقبله الله ولا يرفعه ولا يستجيب لك وهو الذي وعد عباده المؤمنين أن يستجيب لهم إذا دعوه { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان } "البقرة"
وأنت تقرأ هذه الآية ثم تدعو الله فلا يستجيب لك فتتعجب من هذا الأمر وتكرر الدعاء في أمر آخر فلا يستجيب لك ثم تكرر الدعاء في أمر ثالث فلا يستجيب لك فلا تزال متعجبا كيف أن الله وعد عباده المؤمنين أن يجيب دعائهم وهو لا يستجيب دعاءنا إذا دعوناه الرسول عليه الصلاة والسلام يبين للأمة أن هناك علاقة قوية متينة بين أكل الحرام وعدم استجابة الدعاء بين أكل المال الحرام الذي حرمه الله وعدم استجابة الدعاء فإذا رأيت أن كثيرا من المسلمين لا يستجاب دعاؤهم ولا يرفع ولا يقبل عند الله فاعلم أن ذلك من أقوى أسبابه المؤدية إليه أنهم يتجرءون علي المال الحرام الذي حرمه الله
فقد روى مسلم بسنده في صحيحه إلى أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ) يعني لا يقبل من الصدقات إلا ما كان من مال حلال وأن الله قد أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا} "المؤمنون 51" فأمر المرسلين أن يأكلوا من الحلال وأن يعملوا العمل الصالح وقال {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون} " البقرة 172" فأمر المؤمنين أن يأكلوا من الحلال فقط { كلوا من طيبات ما رزقناكم } كلوا من الطيبات واعملوا صالحا أمر المرسلين بما أمر به المؤمنين وأمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ثم ذكر رسول الله عليه الصلاة والسلام الرجل وصف رجلا من الأمة يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يارب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام فأنى يستجاب لذلك يقول (إن الرجل يسافر سفرا طويلا) يطيل السفر والسفر من أسباب إجابة الدعاء فالمسافر دعاؤه أقرب إلى الإجابة من المقيم لأن قلبه متعلق بالله أكثر في غالب الأمر فهذا الرجل مسافر يعني دعاؤه أقرب
(وهو أشعث أغبر) في حالة من الذل والخشوع والخضوع الظاهر وهذا سبب في إجابة الدعاء (يمد يديه إلى السماء) أي يرفع يديه ويلجأ إلى الله وهذا سبب في قبول الدعاء وأدبه (يقول يا رب) يلجأ إلى الله بقوله يا رب وهو يلجأ إلى الله ولا يلجأ إلى أحد سوى الله ومع كل هذه الأسباب وتلك الوسائل فإن الله يرد دعاءه لا يقبله ولا يرفعه ولا يستجيب له مع أنه أخذ بأسباب القبول إلا سببا عظيما وشرطا خطيرا قد فرط فيه ( مطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام فأني يستجاب له ) يعني مستحيل أن يستجيب الله دعاء من يأكل الحرام أبدا إلى يوم القيامة فهذا قد ضيع نفسه وأكل مالا حراما من أجل ذلك فإن الله عز وجل يدعو عباده المؤمنين إلى أن يجتنبوا أكل المال الحرام فإذا وسوس الشيطان لهم أو استحوذ عليهم أو ضعفت نفوسهم أمام المال الحرام الذي تعددت صوره وأشكاله إذا أكلوا الربا الذي نهي الله عنه أو أكلوا مال اليتيم بغير الحق أو أخذوا الرشوة أو استحلوا أو اغتصبوا مال الناس أو ظلموا غيرهم وأكلوا أموالهم بالباطل أو عملوا في تجارات محرمه باطلة كبيع الخمر ولحم الخنزير وآلات اللهو والغناء وغير ذلك مما حرمه الله
فإن الله عز وجل يدعو هؤلاء جميعا إلى أن يتوبوا إلى الله والي أن يتخلصوا مما بأيديهم من المال الحرام قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله لأن (كل لحم نبت من حرام فالنار أولي به) ينادي الله علي عباده المؤمنين يدعوهم إلى التوبة من المال الحرام يدعوهم إلى التخلص من هذا المال الحرام الذي وصل بطونهم وأبدانهم يدعوهم إلى وقاية أنفسهم وأهليهم من النار التي وقودها الناس والحجارة {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} وهو نداء عجيب يبدؤه القرآن بقوله يا أيها الذين آمنوا يا من تزعمون أنكم مؤمنون بالله وتدعون أنكم مؤمنون بالله وتزعمون أنكم متقون لله (يا أيها الذين آمنوا ) يا من تقولون ذلك بألسنتكم ( اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ) وأنت تتعجب بقول الله لنا في أول الآية (يا أيها الذين آمنوا) وفي آخرها يقول (إن كنتم مؤمنين ) يا أيها الذين آمنوا إن كنتم مؤمنين اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا هكذا ترتيب الكلام لو سألك سائل هل أنت مؤمن حقا؟ تقول نعم هل أنت متأكد أنك مؤمن بالله تقول نعم هل أنت متيقن أنك تتقي الله تقول نعم فيقال فإن الله يقول لك إذا كنت صادقا في قولك هذا فذروا ما بقي من الربا فهذه علامة الإيمان أن تتركوا الربا وسائر الأموال المحرمة إن كنتم مؤمنين كما تدعون وتقولون بألسنتكم ثم بعد ذلك هذا النداء الرباني لا شك أنه سيستجيب له عدد من المسلمين سيستجيب عدد من المسلمين من المؤمنين الصادقين سوف يتركون الربا ويريدون أن يعرفوا طريق التوبة الصحيح إلي الله عندما يسمعون نداء الله (اتقوا الله) اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فسوف تتأثر قلوب قوم من المؤمنين بهذا النداء سوف تسارع إلى التوبة لكنها تريد أن تعرف طريق التوبة الصحيح كأن هؤلاء المسارعين التائبين العائدين الآيبين إليه يقولون يا رب قد سمعنا النداء ونريد أن نتوب ونرجع لكننا نريد أن نعرف طريق التوبة الصحيح إليك
فيقول الله لهم {فإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون} والمرابي يأكل الحرام ولا يشبع ولا يقنع وكل من يأكل الحرام فإنه لا يشبع ولا يقنع فيه جشع وطمع وفيه شدة جرأة علي المال الحرام قد اعتاد عليه وأكله واستماله واستقام علي ذلك فترة من الزمن فعندما ينادي إليه إذا تبت من الربا فلا تأخذ شيئا من الأرباح الربوية التي كنت تمني نفسك بها قبل ذلك ومعلوم أن المرابي إنما يرابي بالمال وهو يطمع أن يغنم من وراء ذلك أرباحا ولو كانت محرمة فأول شي يفعله القرآن به يقول له إن علامة التوبة الصادقة إلى الله أن تأخذ رأس المال فقط وألا تأخذ شيئا من الأرباح التي حرمها عليك من الربا فإذا كان صادقا في إيمانه فإنه سيرضي بحكم الله ويقبل شرع الله ويسترد رأس ماله فقط ويترك الحرام الذي حرمه الله عليه وهو علي يقين كامل بأن من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه فمن ترك وظيفة محرمة يبتغي بذلك وجه الله عوضه الله خيرا منها ومن ترك مالا حراما كان يأكله ينبغي بذلك وجه الله عوضه الله خيرا منه
وكل من ترك شيئا لله تقربا إلى الله يبتغي به وجه الله عوضه الله خيرا منه وهي سنة من سنن الله التي لا تتبدل ولا تتحول ولا تتغير أبدا وكثير من المسلمين يعلم ذلك في نفسه وكم من أناس تركوا حراما بعد أن عوضهم الله خيرا منه من الحلال وكم من مسلمين أغلقوا باب الحرام في وجوه أنفسهم وتابوا إلى الله توبة نصوحا فعوضهم الله حلالا وقنعهم بما آتاهم وأصبحت نفوسهم غنية بالله بعد أن كانوا يأكلون ولا يشبعون يجمعون ولا يشبعون أصبحوا قانعين راضين لأن الله قد أبدلهم بالحرام إيمانا في قلوبهم وطمأنينة في نفوسهم ورضا بما قسمه الله لهم {فإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} والمرابي وآكل الحرام قد يتأثر بذلك ويتألم إذا كان ضعيف الأيمان يقول خذ رأس المال فقط واترك هذه الأرباح الطائلة الهائلة وإن كانت محرمة اترك كل ذلك واخسر هذه الأموال هو في الحقيقة لا يخسر وإنما يبدله الله بذلك بركة في ماله ونماء في تجارته أو في صناعته أو زراعته وحفظا لبدنه وبدن رعيته من الأمراض والابتلاءات التي تأكل الأموال كما تأكل النار الحطب يبدله الله بذلك خيرا منه من حيث يدري ومن حيث لا يدري يبارك الله له في نفسه وفي أهله وبيته يبدله خيرا من المال طمأنينة واستقرارا وأمنا وأمانا في حياته يبدله سعادة يجدها في قلبه كان محروما منها وهو يأكل الحرام يبدله طمأنينة في نفسه كان محروما منها وهو يأكل ما حرم الله عليه وهذا لا يقاس بأموال الدنيا بأسرها (فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون )
والمرابي عندما يتوب إلى الله يقال له تسترد رأس مالك فقط فيذهب إلى من أقرضه المال بالربا ويريد أن يسترد رأس ماله فقط وهو تائب إلى الله وقد يجد أن صاحبه عاجز عن سداد الدين والوفاء به يجد أن المدين عاجز عجزا حقيقيا ومعسرا إعسارا حقيقيا لا وهميا عن الوفاء بالدين في موعده المتفق عليه وعجزه ظاهر وهو لا يملك شيئا يبيعه للوفاء بدينه لا يملك إلا ضرورات الحياة وفقره متحقق فيقول الله للدائن الذي تاب إلى الله ليس هذا فقط تأخذ رأس المال ولا تأخذ شيئا مما زاد عليه من الأموال المحرمة وإنما إذا وجدت المدين معسرا عن الوفاء بدينه فإنه يجب عليك وجوبا شرعيا أن تصبر عليه حتى ييسر الله له الأمر ويسدد الدين { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} "البقرة 280" فإن كان ذو عسرة إن كان متعسرا إن كان عاجزا إن كان فعلا لا يستطيع الوفاء بدينه في الموعد المتفق عليه فإنه يجب عليك أيها الدائن صاحب المال وصاحب الحق أن تصبر عليه حتى ييسر الله له الأمر فيسدد ما عليه من المال بعد فترة من الزمن ييسرها الله عليه ولا يجوز لك أن تكون سببا في سجنه أو حبسه أو في شكايته أو في إلحاق الضرر به إذا كان عاجزا عن الوفاء بذلك أي أمة التي يريدها الإسلام من المسلمين؟ إنها الأمة المترحمة أمة الجسد الواحد الذي اشتكي منه عضو تداعي له سائر الجسد بالحمى والسهر
( إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) اصبر عليه ولا تشكوه إلى قضاء ولا غيره إذا تأكدت من إعساره وعجزه أما إذا كان مماطلا يريد أن يأكل مالك بالباطل وهو يقدر علي الوفاء فلا حرج عليك في أن تشكو وأن تلحق به ضررا إذا ألحق بك ضررا أو تعفو عنه إن أردت لكن فرق تفرق به الشريعة بين المعسر والمماطل فإن (مطل الغني ظلم) لا يرضي الله عنه أما عجز الفقير المعسر فهو حق يجب علي الأمة أن تصبر عليه وأن تؤجل قضاء دينه إلى حين ميسرة فالشريعة تفرق بين هؤلاء وهؤلاء بين المعسرين العاجزين الفقراء الذين لا يستطيعون الوفاء بديونهم وبين المماطلين الأغنياء الذين يمكنهم الوفاء بالدين ولو باعوا شيئا زائدا عن حاجات حياتهم لكنهم يماطلون في الحق وهذا نوع من الظلم الذي لا تقره الشريعة والذي نبه عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام بأنه ظلم يحل العقوبة والعرض يعني يحق أن تتكلم في حقه وأن تشكوه إلى من يقضي هذه الحاجة ومن يجبره علي الوفاء بدينه إذا كان مماطلا غنيا ولم يكن فقيرا معسرا وأنت تلاحظ أن أكل المال الحرام والمرابي بصفة خاصة قد نبهته الشريعة إلى أنه يسترد رأس ماله فقط ثم نبهته مرة أخري إذا وجدت المدين عاجزا فيجب عليك أن تصبر عليه ثم نبهته مرة ثالثة إلى أمر أعجب قال الله عز وجل له {وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون}
ما المانع إذا كنت قادرا أن تتصدق علي المدين المعسر ببعض أو بكل الدين أو تتنازل عنه ابتغاء وجه الله وأن تقول له إنى تنازلت عن كل أو بعض ديني تقربا إلى الله وابتغاء وجه الله مادمت تقدر علي ذلك وقد جعل الله لك سعة في مالك وهذا أمر عجيب وتربية وتزكية للنفس المؤمنة بصورة عجيبة لكنها ليست عجيبة علي منهج الله أنه ينقل آكل المال الحرام ينقل المرابي نقلات عجيبة في تزكيه نفسه وتطهيرها من المال الحرام الذي لوثها من قبل فأول شي يقول له لك رأس المال فقط والثاني إذا وجدت المدين عاجزا فاصبر عليه والثالث الذي يمنع أن تتصدق علي المدين العاجز ببعض أو بكل الدين فهو خير لك عند الله (وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون) ثم يعود القرآن فينبه قارئه وسامعيه {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله} فتجدون أنكم محتاجون إلى كل ذلك اتقوا هذا اليوم الذي سترجعون فيه إلى الله فتندمون إذا لم تتوبوا إلى الله من الربا وتستردوا رؤوس أموالكم واتقوا هذا اليوم الذي سترجعون فيه إلى الله فتندمون إذا لم تصبروا علي المدين العاجز عن الوفاء والسداد وتسببتم في أضراره وتتمنون لو أنكم صبرتم عليه ( اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ) ستندمون لأنكم لم تتصدقوا علي المدين العاجز ببعض أو بكل الدين مع قدرتكم علي ذلك ولو فعلتم لوجدتم ذلك في ميزان أعمالكم يوم يقوم الناس لرب العالمين
إن المسلم يقرأ هذه الآيات التي تذكره بالله وتدعوه إلى التوبة من المال الحرام فيري الدنيا حقيرة فانية ويري الآخرة في عينه عظيمة باقيه إن القرآن يبدؤها بقوله ( يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله ) ويختمها بقوله (اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) وهل يعيش المؤمن في هذه الدنيا إلا لأجل هذا اليوم هل يعيش المؤمن في الدنيا ويرجو شيئا غير هذا اليوم الذي سيرجع فيه إلى الله هل يعمل في الدنيا إلا هذا اليوم هل يستعد إلا للقاء الله في هذا اليوم الذي سيرجع فيه إلى الله إن هذا اليوم الذي يشير إليه القرآن الكريم هو الذي يرجوه كل مؤمن ومؤمنة وهو اليوم الذي يتنافس المؤمنون في الاستعداد له من أجل ذلك يدعوهم القرآن الكريم إلى التوبة من المال الحرام ويذكرهم بهذه الحقيقة أن من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم .
إن التوبة من المال الحرام تقتضي من المسلم أن يتخلص من كل مال حرام لحق به في حياته وأن ينفق هذا المال إذا عجز عن رده إلى صاحبه أن ينفقه تخلصا عن نفسه وصدقة عن صاحب المال لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا فالذي يتخلص من المال الحرام إنما ينفقه تخلصا لا تقربا إلى الله فإن الله لا يقبل الصدقة من مال حرام أبدا وإنما يقبله صدقة عن صاحبه الأصلي ويكون تخلصا عمن أكل الحرام أو امتدت يده إليه وفي مقابل ذلك تجدون في شريعة الله عز وجل دعوة عظيمة إلى الإنفاق والصدقة والعطاء دعوة عظيمة في كلمات قليلة وأنا أرجو من كل مسلم أن يفكر في هذه الكلمات الخمس التي تشتمل علي وجوه من الخير يحرم المسلم نفسه منها كثيرا فيحرم معها نفسه من الأجر العظيم والثواب الجزيل الذي ينتظره لو فعل ذلك الخير وهو يسير علي من يسره الله عليه إن رسول الله عليه الصلاة والسلام يشرح لأمته مشهدا من مشاهد يوم القيامة ومشاهد يوم القيامة كثيرة جدا يشرح مشهدا من هذه المشاهد يبين فيه إن كل عبد من عباد الله سوف يكلمه ربه مباشرة ليس بينه وبينك ترجمان يترجم له سيقول له الله لعبده( ألم آتك مالا؟ فيقول بلي يا رب ألم أرسل إليك رسلا؟ فيقول بلي يا رب فينظر العبد عن يمينه فلا يري إلا النار وينظر عن شماله فلا يري إلا النار وينظر تلقاء وجهه فلا يري إلا النار فاتقوا النار ولو بشق تمره فمن لم يجد فبكلمة طيبة) اتقوا النار التي سترونها في هذا المشهد أمامكم عن يمينكم وعن شمالكم ولو بشق تمره إنها دعوة للإنفاق في سبيل الله لكنها تبدأ بالفقراء وتنتهي بالأغنياء
كأنه يقول إذا كنتم فقراء معدمين لا تملكون شيئا علي الإطلاق تتصدقون به إلا نصف تمرة فتصدقوا بنصف تمرة لا يقول هنا أيها الأغنياء كما قال في مواضع كثيرة وإنما ينبه الفقراء قبل الأغنياء أنه يغلق بابا من أبواب الشيطان لأن الشيطان يأتي إلى المسلم إذا هم بالصدقة فيخوفه من الفقر يقول له تريد أن تتصدق ألست محتاجا إلى هذا المال ألست مقبلا علي عام دراسي جديد ألست محتاجا إلى نفقة ألست تريد أن تدخر هذا المال بغرض كذا وكذا؟ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء يتوعدكم بالفقر إذا أنفقتم أو تصدقتم فرسول الله عليه الصلاة والسلام كأنه يقول للأمة لا تسمعوا له اتقوا النار ولو بشق تمرة وهي أقل شئ يمكن أن يتصور الفقير المعدم الذي لا يجد إلا قوت يومه فقط كأنه يقول أيها الفقير المعدم يا من لا تملك شيئا على الإطلاق اتق النار ولو بشق تمرة وقد حدث هذا فعلا فقد جاءت سائلة ومعها ابنتان لها إلي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تسألها حسنة فلم تجد في بيتها في بيت النبوة شيئا تتصدق به إلا تمرة واحدة فأعطتها للمرأة فقسمتها المرأة بين ابنتيها فأصبح لكل بنت منها شق تمرة اتقوا النار ولو بشق تمرة وهذا أقل شئ يمكن أن يوصف في الصدقة
لكنه عند الله ليس أقل شئ فإن ميزان العبد يوم القيامة قد يحتاج إلى حسنة واحدة ينجو بها صاحب الميزان فتأتي هذه النصف تمره فتثقل الميزان فيدخل الجنة وينجو من النار ومع ذلك فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول بعدها فمن لم يجد نصف تمرة الفقير الذي لا يملك شيئا علي الإطلاق فعليه أن يتقي النار بكلمة طيبه فمن لم يجد فبكلمة طيبة فوقاية النار الوقاية من النار ولو بشق تمرة بكلمة طيبة أمور سهلة ميسورة صدقة في كل يوم سهلة ميسورة لكن ينبغي علي المسلم وهو يتصدق أن يراعي هذه الحقيقة الشرعية التي بينها رسول الله عليه الصلاة والسلام في قوله ( سبق درهم ألف درهم ) قالوا كيف ذلك يا رسول الله؟ درهم واحد يسبق ألف درهم قال (رجل له مال كثير تصدق منه بألف درهم) مال كثير ملايين تصدق منه بألف درهم (ورجل ليس له إلا درهمان) تصدق بأحدهما فالذي تصدق بأحدهما تصدق بنصف ماله والذي له مال كثير تصدق بألف فكان هذا الدرهم مع عجز صاحبه عن الصدقة بغيره سابقا في الميزان علي الألف درهم
فهذه حقيقة تبين أن المسلمين يتفاوتون بحسب ما آتاهم الله من الأموال في الصدقة والعطاء فالكلمة الأولي شق تمرة والكلمة الثانية كلمة طيبة ويتجمع إليها ثلاث كلمات من حديث آخر (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث , صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) هي كلمات ثلاث فيجتمع لنا خمس كلمات شق تمرة وكلمة طيبة و صدقة جارية علم ينتفع به ولد صالح يدعو له وأسعد المؤمنين يوم القيامة من يفعل هذه الخمسة جميعا أسعد المؤمنين بين يدي الله يوم القيامة من يجمع بين هذه الخمسة شق تمرة صدقة ولو كانت قليلة مع عدم القدرة أو العجز كلمة طيبة يدل بها علي الخير أو يكفه عن الشر أو يصلح بها بين الناس صدقة جارية يدوم أجرها ونفعها ما دامت قائمة علم ينتفع به ولد صالح قد أحسن تربيته فهو يدعو له بعد موته بالرحمة والمغفرة أسعد المؤمنين من يجمع بين هذه الخمسة من يجتهد في تحقيقها جميعا والمسلم أحيانا تفتح له أبواب الخير فلا يدخل منها ويحرم نفسه من الدخول فيها وقد تفتح له أبواب الشر فيسارع إليها فيكون قد أضر بنفسه من حيث لا يشعر ولا يريد إن الصدقة الجارية
وإن العلم الذي ينتفع به إنما يكون بأمور يسيرة سهلة إنها في كتاب صغير جدا يحوي علي علم نافع من علوم الشريعة تقرأه ثم تهديه إلى غيرك أو تعطيه له ليقرأه ويرده إنها في شريط نافع تسمعه ثم تسمعه لغيرك أو تهديه له إنها صدقات جارية إنها علم ينتفع به تأخذ أجرها وثوابها دون أن تشعر وما يدريك لعلك لو أقرأت غيرك حرفا أو أهديته كتابا نافعا ثم قرأه فكانت الهداية بسبب هذا الكتاب الذي أهديته له ثم أهداه لغيره فكانت الهداية كذلك فيكتب الله لك وأنت لا تشعر أجر جميع هؤلاء أجر كل ركوع وسجود لتارك صلاة قد هداه الله علي يديك أجر كل صدقة أخرجها عبد بسببك أجر كل فعل خير فعله عبد وكنت سببا فيه وأنت لا تشعر بشيء من ذلك فتأتي يوم القيامة وتجد أن الله عز وجل قد أعطاك كل هذا الأجر إنه { إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في السماوات أو في الأرض يأت بها الله} " لقمان 16" {مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها } " الكهف 49"إننا في هذا اليوم المبارك ندعو الأخوة الحاضرين جميعا إلى الصدقة في علم ينتفع به وهي صدقة جارية في نفس الوقت ندعوهم إلى التبرع لمجلة التوحيد وهذا المشروع المقصود منه أن جميع فروع أنصار السنة تساهم فيه الآن ليطبع مع المجلة مجموعة من الهدايا والكتب النافعة التي يساهم فيها كل مسلم ومسلمة بحسب ما أفاء الله عليه وقسم له من سعة في الأرزاق لتطبع هذه الكتب النافعة يأخذ المسلم أجرها وثوابها من الله عز وجل يكتب له صدقة أعطاها أجرا عظيما وهو قد لا يشعر بذلك إن تكلفة كل كتاب من هذه الكتب هي تكلفة زهيدة في النسخة الواحدة لكنها عالية بالنسبة للمقدار الذي يريد أن تطبع منها حتى يتسع نفعه وذخره وبره لمن تصدق به ولمن قرأه ولمن انتفع به وعمل بما فيه
نسأل الله عز وجل أن يتقبل منا ومنكم هذه الصدقة وأن يجعلها خالصة لوجه الله عز وجل وأن يجعلها لنا ولكم في ميزان أعمالنا وأعمالكم من العلم الذي ينتفع به ومن الصدقة الجارية التي يدوم نفعها إلى ما شاء الله وأن يثقل بها موازيننا وأن يرفع بها في الجنة درجاتنا وأن يجعلها ذخرا لنا يوم يقوم الناس لرب العالمين .